أتدرى يا حبيبى أنك لم تكن ربيع حياتى ولا خريفها ولا صيفها ولا شتاءها .. لقد كنت فصلا خامسا فزت به وحدى .. فصلا أضيف الى عمرى فلونه وأبهجه.
كل امرأة فى الدنيا تترقب فى حياتها فصل الربيع , فصل الزهور والعطور , فصل الحياة بعد الموت .. ذلك الفصل الذى يأتى اليها حاملا الدفء بعد ان أجهدها الصقيع .. يأتى حاملا الحب على نسماته المعطرة.
كثيرات من زعمن أن الحب قد أشرق فى حياتهن فبدل جفافها نضارة وأحال ضجيجها الى لحن عذب خالد .. ولكن هل يمكن ان تكون هناك امرأة أحبت كحبى أو أعطاها الحب ما أعطانى؟! .. كلا , فهذا هو المستحيل بعينه .. لذا يا منية النفس أقول لك أنك لست ربيعى الذى كنت أتمناه .. فأنت فوق ما أتمنى وأحلم .. أنت الذى خلقت فى التقويم فصلا جديدا لم تعرفه امرأة قبلى ولن تعرفه امرأة بعدى.
* * *
يوم من أيام فبراير الممتعة , هنا فى الأسكندرية .. لكم أعشق هذه المدينة صيفا وشتاء لكن عشقى لها يزداد فى الشتاء , أستمتع بكل ما فيها , هدوءها اللذيذ واستسلامها الناعس لأحضان البحر , نزهاتى الصباحية على شاطئها وما يداعبنى به بحرها من رذاذ منعش ونسمات محملة برائحته التى تملأ كيانى , حتى تلك الأمطار الغزيرة أعشقها حين تتساقط على شعرى تساقط حبات الندى على الزهرة الظمأى .. لكن المدينة الساحرة والعروس الجميلة كانت فى ذلك العام أشد سحرا وأكثر جمالا فى عينى , ربما لأن سحره هو أبرز لى سحرها وما فيها من مفاتن , فسحره لم يطغ يوما على سحر الأشياء الساحرة وان فاقها , بل كان على الدوام مفتاحا الى الجمال فى كل شىء .. هل هذا لخصيصة فيه هو؟ أم أنه قد نبه فى داخلى حواسا كانت غافية فانتبهت لتدرك مواطن الجمال فى كل شىء حولى , أم أنه قد خلق تلك الحواس داخلى خلقا فأنا من أشد المؤمنين بقدرته على الخلق.
كانت ساعة من ساعات الأصيل , وكنا جالسين فى ذلك النادى الجميل القائم بين مياه البحر الزرقاء كجزيرة جميلة تتصل باليابسة عن طريق ممر حجرى أنيق.
كنا جالسين الى مائدة صغيرة مستديرة بجوار السور القصير الذى يلى البحر .. كنت أرنو الى الأفق متأملة زرقة الماء تلتقى بزرقة السماء وهالنى ذلك الوضوح الناصع لدرجات اللون وتساءلت " منذ متى كان احساسى بالألوان حادا بهذه الصورة؟!" .. اصطدمت احى الأمواج بالسور الحجرى المجاور لى وتناثر رذاذها على وجهى وساعدى وتطايرت خصلة من خصلات شعرى أمام عينى , عندها أحسست بأنامله تلامس جبهتى لتسوى تلك الخصلة النافرة .. سرت فى داخلى رعشة لمسرى أنامله كان لها فى داخلى دبيب كدبيب الخدر .. نظرت اليه بعينين مترعتين بحبه فاحتضن كفى بين كفيه وقال بحنان:
- فيم شرودك وصمتك يا حبيبتى؟
- "فيك أنت يا حبيبى" أجبته دون تفكير
- "فى أنا؟!" تسائل مبتسما
- نعم فيك أنت !!
- حدثينى اذن كيف تفكرين فى؟
فتنهدت بعمق لأملأ صدرى من أنفاس البحر المعطرة بأنفاسه وقلت:
- كنت أفكر فيما أحدثته من حراك فى بحيرة حياتى الراكدة .. لا أدرى كيف ظهرت فى حياتى على غير انتظار أو ان شئت فقل بعد أن أعيانى الانتظار ودب فى قلبى اليأس وامنت أن ما أصبو اليه من حياة حقيقية تحت جناح الحب لا مجال لوجودها سوى بين دفتى كتاب يحمل فى طياته أفكارى ومشاعرى وأحلامى وعلى غلافه ترتسم بضع زهرات جميلات وقلبان ورديان وعنوان يحمل قبسا من تلك الأنفاس الملتهبة التى تتردد فى صدرى الظامىء الى قطرات من ندى الحب .. هذا ما تيقنت منه بعد أن طال انتظارى ويأسى .. أما الواقع فقد أدركت أن على أن أحيا حياة سمجة كالتى تحياها الأخريات وأتحول الى الة لا مشاعر لها ولا أحاسيس , لها فى الحياة وظيفة بيولوجية معروفة هى أن تحمل وتلد وتربى جيلا اخر يعيد تلك الدورة من جديد , حتى ظهر فى حياتى الزلزال ...
- "أى زلزال يا زهرتى الجميلة؟" سألنى مداعبا فاستطردت مبتسمة:
- انه أنت يا حبيبى .. اشراقك فى حياتى لتبدد ظلمات نفسى وتحملنى على بساطك السحرى الى عالمك الفريد .. حملتنى الى دنيا كالأساطير كل شىء فيها ينبض بألوان قوس قزح الجميلة .. وبعصا الساحر التى كانت فى يمينك صرت تفتح لى كل يوم بابا الى الفردوس أبهى فى كل يوم من سابقه وتساءلت مبهورة " ألا تنتهى مفجاتك " فأجبتنى .. أتذكر بم أجبتنى؟
- وكيف لا أذكر يا حبيبتى وهذا حالى منذ عرفتك .. لقد قلت لك وأقول وسأظل أقول أننى أنا أيضا أعيش فيما تعيشين فيه من مفاجأة وأشعر بما تشعرين به من دهشة , اننى أفاجأ كل يوم بتلك الأبواب السحرية التى تحملنا الى ما ورائها من عوالم كرنفالية ملونة لم تخطر لى ببال ولا دارت لى بخيال .. ان حبك هو الذى خلقها وما كان لى فى ذلك من فضل سوى أنى ارتدتها معك .. فأنت يا واهبة الحب من وهبتنى تلك الحياة الجديدة بكل ما تحمل فى طياتها من مفاجات مثيرة.
قال ذلك ثم انحنى يقبل أناملى قبلا رقيقة عذبة كأنها مداعبات نسيم الصباح لخدود الزهر فلم أستطع أن أتدارك تلك الدمعة التى انحدرت من عينى وقلت له:
- أتدرى يا حبيبى أن حبك يبلغ بى أحيانا حد الألم والاجهاد؟
- لا كنت أنا ولا كان حبى اذا مسك ألم أو حتى كدر.
- أبقاك الله لى وأبقى لى حبك يا حبيبى .. بل انها عذوبة العذاب أو عذاب العذوبة , انه الألم الذى يسقى القلب قمة اللذة فى ذروة الألم .. اننى ما أكاد أفارقك حتى أتمنى أن أعود اليك , أن أرتمى على صدرك وأظل ملاصقة لقلبك أبد الدهر.
- انك مقيمة فى ذلك القلب لا تبرحينه يا زهرة قلبى.
- واذا حادثتك فى الهاتف حين تكاد أشواقى تدفعنى الى ذرى الجنون فان صوتك الحبيب يروى ظمأ ويشعل حريقا .. يروى ظمأ أذن عطشى الى صوتك الحنون , ويشعل حريقا من الأشواق, فالعين تتوق الى رؤياك والأنف يتوق الى أنفاسك المعطرة والقلب لا يهدأ وتنتظم دقاته الا على دقات قلبك .. أتدرى يا فؤادى أننى أسمع دقات قلبك وأراه أيضا حين أكون الى جوارك , حتى اذا ما غادرتك أحسست فى قلبى ذلك الوجع الشديد.
- لكننى يا حبيبتى لا أكاد أسمع لك حديثا حين أحادثك فى الهاتف!
- ذلك لأننى أحيا مع كلماتك .. تأخذنى من نفسى الى عالم جميل بعيد , فلا أريد أن أبدد لحظة دون الأستماع الى صوتك وحديثك العذب.
- لكنك لا تتحدثين حتى عند صمتى!
- يكفينى أن أستمع الى تردد أنفاسك .. انها تطربنى وتشعرنى بالأمان .. أحس بأنك الى جوارى .. أحس بأننى فى حضنك .. أحس لأنفاسك بحلاوة يتذوقها قلبى ويتلذذ بها كما يتلذذ اللسان بطعم العسل.
فى تلك اللحظة انتبهنا لقدوم شخص ما نحونا .. أقبل علينا ذلك الشخص مبتسما فابتسمنا فى ارتباك , فقال فى لهجة مهذبة :
- اسف لتطفلى , لكنى كنت أجلس جلستى المعتادة فى الركن المقابل لجلستكم تلك أحتسى قهوتى , فأثار مراكما فى نفسى مشاعر غريبة , أحسست بطاقة تنفتح أمامى الى عالم الابداع ولا أخالكما الا محبين .. فوجدتنى أمسك بمقصى وورقتى وأصنع لكما صورة "السلويت" تلك , فهذا هو عملى .. أرجو أن تتقبلاها منى , وأكرر أسفى لتطفلى.
ناولنا الصورة فشكرناه مبتسمين ودعوناه للجلوس مشكرنا بأدب ومضى منصرفا .. كانت صورة "السلويت" التى صنعها لنا شديدة الجمال حيث رسم لى ولحبيبى منظرا جانبيا "بروفيل" كفاى بين كفى حبيبى ووجهانا متقاربان فى حديث هامس , فقلت أنا فى فرحة طفولية:
- انها جميلة جدا , أنظر يا حبيبى.
فتناولها حبيبى وابتسم قائلا:
- أرأيتى يا نسمة الجنة كيف أنك ملهمة ليس لى وحدى بل للدنيا بأسرها.
ابتسمت وقد احمر وجهى خجلا لرقة ثنائه .. أحسست بأننى أهواه بكل ما فى قلبى من نبض وكل ما فى داخلى من طاقة .. انه يمس روحى مسا خفيفا ناعما له فى نفسى فعل السحر .. انه يسقينى كأس الحب صافية مقطرة فى ثنايا كلماته ونظراته وابتساماته , اننى لا أكاد أصدق أن ما أحيا فيه واقع وليس بحلم .. انه شىء يفوق الخيال فكيف يكون واقعا.
* * *
والان يا حبيبى وقد تبخرت سحابة الحلم الوردية وهوى بيتنا الجميل الذى بنيناه فوقها , ها أنا أتساءل لماذا افترقنا؟! أهى مشيئة القدر التى فرضها كالسيف المصلت فوق رقابنا رغم أنوفنا ورغم دموعنا وتوسلاتنا؟ .. ولكن هل يقوى القدر على هزيمة الحب , اننى لا أكاد أؤمن بوجود قوة كونية قادرة على هزيمة الحب واى ذلك هو حبك الذى مازال متقدا بين جوانحى كالجمرات التى لم تنطفىء رغم السنوات الطوال , لم تنطفىء رغم حرمانى من رؤياك وسماع صوتك , بل انها لتزداد اتقادا متحدية قوانين السلوى والنسيان .. ان حبك يا ثمرة فؤادى تنميه لحظات العذاب كما تنميه لحظات الهناء .. انه يتمدد كمخلوق خرافى ليحتوى كل الأزمنة والأمكنة فلا مفر منه الا اليه .. أم ترى يا حبيبى أن سر تخاذلنا فى الدفاع عن ذلك الحب هو استكثارنا لوجوده فى دنيا كدنيانا ؟.. أهو الاحساس بأن ذلك حدث أعظم من أن يطيقه الواقع فلا حياة له الا فى دنيا الخيال وكتاب الذكريات ؟.. أهو احساسنا كما قيل أنه حلم نجمى أكثر تألقا من أن يدوم؟
الان يا حبيبى وقد انقطعت بيننا السبل لعلك تتسائل عما فعلت بى السنون؟ هل دخل قلبى رجل اخر؟ تلك الأسئلة قد تجول بفكرك كما تجول بفكرى.
اننى أطرح الان سؤالين قد يحملان الأجابة التى لن تصل اليك لتبقى أسئلتك بلا اجابة كما ستظل أسئلتى بغير جواب , وأسئلتى يا من وهبتنى نعمة الحب هى : هل يملك الانسان فى تلك الحياة سوى قلب واحد؟ وهل ذلك القلب يا مالك قلبى دار ضيافة تودع زائرا لتستقبل اخر؟
اننى لن أقول لك ما قد قيل من أن الحب هو تاريخ المرأة وهو حادث عارض فى حياة الرجل , لكننى سأقول لك أننى قد ذقت حلاوة الحياة الحقيقية كما لا أظن أن امرأة قد ذاقتها قبلى أو أن أمرأة قد تذوقها بعدى وأن ما وهبتنى أنت من حب يكفينى زادا الى اخر رمق لى فى تلك الحياة , أما فيما وراء تلك الحياة فان روحى تبصر اجتماع شملنا , روحى التى لم تفارقها روحك لحظة رغم افتراق الأجساد.
اننى تسائلت مرة ماذا لو أوتيت القدرة لأنفك عن حبك فعلمت أن ذلك سيتبعه أشياء كثيرة , فعلى حينئذ أن أحذف من قاموس حياتى كلمات كالاخلاص والوفاء .. وأن كلمات أخرى ارتبطت حياتها داخلى بحياة الحب كالخلود والالهام ستبهت فى وعيى وتتلاشى وأن ذلك سيقود بلا ادراك الى فقدان كلمة الحب كل مذاق لها أو بريق لتغدو خرقة بالية لا تحمل فى طياتها معنى نبيل ومع ذوبان الحب واهب القيم الدائم تذوب من حياتى كل القيم الأخرى كالخير والجمال والفضيلة , وهذا كله لا يعنى سوى اننى أفقد ذاتى وأتلاشى .. فلا وجود لى الا بوجود حبك فى قلبى حارسا لبقائى وكينونتى وراعيا لكل معنى جميل يسكن صدرى.